باكستان والدرع النووي- دروس في صون الأوطان للأمة العربية

المؤلف: أحمد الشيخ09.01.2025
باكستان والدرع النووي- دروس في صون الأوطان للأمة العربية

متى تستوعب أمتنا حجم الأخطار المحدقة ببلداننا، تلك المخاطر التي تهدد وجودنا ذاته، فتبادر إلى إعداد العدة اللازمة لردعها، على غرار ما فعلته أمم أخرى سبقتنا؟

لا يزال صوت الشيخ إبراهيم زيد الكيلاني، رحمه الله، يرن في أذني، حينما صدح في خطبة الجمعة بالمسجد الحسيني الكبير بعمان، في الثالث من كانون الأول عام 1971، قائلاً: "اللهم انصر الباكستانيين على الهنادكة"! ما زلت أذكر جيدًا وقع تلك الكلمة "الهنادكة" على مسامعي، فقد كانت مألوفًا لنا أن نقول "الهنود"، لكن حس الشيخ اللغوي الرفيع أبى إلا أن يختار اللفظ الأبلغ والأفصح.

كنت حينها طالبًا في الجامعة الأردنية، وقضية فلسطين كانت ولا تزال تحتل صدارة اهتماماتي. إلا أنني شعرت بغصة وأنا أرى بوادر هزيمة باكستان تتضح، وأن شطرها الشرقي، الذي كان جزءًا منها منذ التقسيم عام 1947، بات كيانًا ضعيفًا يُدعى بنغلاديش، يكافح من أجل البقاء.

لم أكن أفهم تمامًا سبب الألم الذي انتابني كلما رأيت في الصحف صور استسلام الجنرال نيازي، قائد القوات الباكستانية في الشطر الشرقي، بتعدادها الذي بلغ 90 ألف جندي. ربما لم أكن قد امتلكت بعد الخبرة الكافية والقدرة على التفكير بمنظور أوسع، لأدرك عواقب ما حدث.

كم خشيت أن يعاودني ذلك الشعور المرير، حين تصاعدت تهديدات رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي لباكستان، بعد الأحداث التي شهدتها كشمير المحتلة. فمودي هذا لا يخفي عداءه للمسلمين ولفلسطين، وتعزيز تحالفه مع إسرائيل.

إلا أن هذه المرة، لم تجر الأمور كما أراد مودي، وتوقفت الحرب على عكس تفاخره بالعون الإسرائيلي والغربي، إذ سقطت طائراته في المواجهة الأولى، ودمرت بعض مطاراته وقواعد صواريخه المضادة للطائرات.

ليس المهم هنا كيف قلبت باكستان حسابات مودي رأسًا على عقب، بل الأهم، في نظري، هو الدروس والعبر التي يمكن لنا نحن العرب أن نستخلصها من تلك المواجهة، ومن تاريخ الصراع الهندي الباكستاني، علّنا نستفيق من غفلتنا ونحاول النهوض، بعد طول سبات.

قد يقول قائل إن باكستان ما كانت لتصمد لولا الدعم الصيني بالسلاح المتطور والتكنولوجيا والمعلومات. ومع الاعتراف بأهمية هذا الدعم، فإن أساس صمود باكستان يكمن في إرادتها الصلبة التي لم تلن، إرادة البقاء التي لم تزدها الأيام إلا تصميمًا على الصمود.

عندما أجرت الهند تجربتها النووية الأولى عام 1974، استشعر رئيس وزرائها آنذاك، ذو الفقار علي بوتو، الخطر، وقال قولته الشهيرة: "إذا صنعت الهند القنبلة، فسوف نأكل العشب والأوراق، بل ونتحمل الجوع، ولكننا سنحصل على قنبلة من صنع أيدينا، فليس لدينا خيار آخر".

قبل ذلك، أطلقت باكستان عام 1962 برنامجًا طموحًا لتصنيع صواريخ بأيدي علمائها. وسيذكر التاريخ أسماء الساسة والعسكريين والعلماء الذين أقسموا على حماية بلادهم، فصنعوا لباكستان صواريخها وطوروا سلاحها النووي.

ما زلت أذكر بشغف ذلك اليوم الذي أجرت فيه باكستان تجربتها النووية الأولى عام 1998، حين شعرت بالفخر لكون بلد مسلم قد امتلك هذه القدرة التكنولوجية. كنا في غرفة أخبار قناة الجزيرة، وقد أعلنت باكستان أنها ستذيع صور التجربة بعد خطاب لرئيس الوزراء نواز شريف، فأذنت أن نبدأ البث على رأس الساعة بدلًا من منتصفها.

تغير لون سطح الهضبة التي فُجرت القنبلة في جوفها، وأصبح كالعهن المنفوش، كما وصف القرآن الكريم أهوال يوم القيامة. ومنذ تلك اللحظة، حصنت باكستان نفسها بدرع واقٍ من تكرار المواجهات مع الهند، التي لم تخفِ نيتها في القضاء عليها أو تحويلها إلى دولة ضعيفة تدور في فلكها، تمامًا كما هو حال بنغلاديش.

مع أن الواقع السياسي في باكستان لم يكن دائمًا مثاليًا، إلا أن البلاد حققت في سياق إدراكها للمخاطر المحدقة بها ما لم يدركه العرب، حكامًا ومحكومين، منذ نشأة الدولة العربية الحديثة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مع كل ما يمكن تسجيله من ملاحظات حول مفهوم الدولة في عالمنا العربي.

صحيح أن باكستان تعاني من الفساد السياسي والاجتماعي، وتحتاج لإصلاح دور الجيش في السياسة، لكن الإدراك الوطني والوعي بالتهديدات يوحد الجميع، ليصبحوا على أهبة الاستعداد لمواجهة أي خطر يهدد الوطن.

باختصار، باكستان تنهض كأمة تقدس الوطن بكلّ ما فيه، بكل ما استقر في وجدان الأمم عبر التاريخ. وإذا كان هذا هو الحال، فإن الفساد، على الرغم من خطورته، لا يمكنه أن يمحو وعي الأمة بوطنها.

استغرق الأمر باكستان 36 عامًا لتطوير درعها النووي منذ إطلاق برنامجها الصاروخي عام 1962، ولو أضفنا إليها 15 عامًا أخرى منذ استقلالها عام 1947، لوجدنا أن الدولة الوليدة أصبحت قوة نووية في غضون خمسين عامًا فقط.

أين نحن من ذلك؟ نعاني مثل باكستان من الفساد السياسي والاجتماعي، ولكننا لم نستشعر الخطر الذي يهدد وجودنا، حتى أصبح العدو الذي ينهش في أوطاننا حليفًا وصديقًا.

أسئلة كثيرة لا تجد لها إجابات. لماذا تقبل أمة أن تدفن نفسها في عدوها وتفقد وعيها بموقعها في العالم؟ لماذا تتخلى أمة عن تاريخها وتذوب في تاريخ غيرها؟ لماذا لا تغضب؟

أزعم أن مفهوم "الوطن" مغيب عن وعينا، لقد بات الوطن مجرد كرسي للحكم، إذا سلم الكرسي فلا حاجة لصواريخ ولا لدروع نووية، ولا لشعوب حرة، ولا لوعي، ولا لكرامة. فلتقتل غزة، وليمت أطفالها، لا يهم ما دام الكرسي في أمان، فلتغلق الحدود، فليموتوا جوعًا..

يا لها من أمة كُلفت بحمل الرسالة الخاتمة! هل يعقل أن جنود لواء جولاني الإسرائيلي يتدربون في دولة عربية مع قوات من جيوش عربية أخرى على اختراق الأنفاق في غزة؟ نعم، لقد أصبحت إسرائيل ضرورة وجودية يرى فيها النظام العربي الرسمي درعًا واقيًا، والمخيف هو أن هذه القناعة بدأت تتسرب إلى بعض المستويات الشعبية، التي ترى في بقاء إسرائيل ضمانة لاستمرار الوضع الراهن ومكاسبه.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة